مرت مصر في الفترة الأخيرة بعدد من الأضرابات سواء عامة جماعية أو فردية في قطاعات خاصة و بصرف النظر عن مدى المشاركة و النجاح لتلك الاضرابات لكن تضاربت الآراء حول الشرعية القانونية للإضراب و أيضا تضاربت الآراء حول الشرعية الدينية للإضراب . فتساءلت هل يوجد للإضراب شرعية تاريخية هل المصري كان له تجربة اضطرابية في الماضي و ما هو مدى نجاحها و تأثيرها على التاريخ المصري .
يرى البعض في فكرة الإضراب انه فكرة مصدرة غريبة عن المجتمع المصري و لعل هذا كان سببا لاعتراض البعض من أصحاب الاتجاهات المحافظة أو السلفية على الإضراب ، و لكن التأمل في التاريخ المصري يؤكد بطلان تلك الحجة فالمصري يعد أول من عرف الإضراب في التاريخ العالمي و قد سجلت الوثائق الفرعونية القديمة أكثر من مرة قيام المصريين باضرابات و اشهرها إضراب العمال في الأسرة العشرين في عهد رمسيس الثالث عام 1165 عندما تأخرت أجور العمال و قلت الحبوب فامتنع العمال عن العمل و قاموا بأقدم إضراب مسجل تاريخيا و جلسوا في معبد حور محب في مدينة هابو إلى أن نقل كبار الكهنة تلك المشكلة للحكام في طيبة و تم دفع المرتبات للمصريين ، و كان الإضراب وسيلة فعالة يحصل العامل من خلالها على أجره .
هذا بالنسبة للمصري قديما أول من عرف الإضراب في تاريخ البشرية فماذا عن المصري في العصر الحديث هل كرر تلك التجربة .
فالحقيقة أن التجربة تكررت في العديد من المراحل الحساسة في تاريخ مصر فقد سجل الجبرتي ثورة القاهرة الأولى الشهيرة التي نشبت في وجه الفرنسيين ، و فيها أغلق التجار حوانيتهم و توقفت عملية البيع و الشراء احتجاجا على المغارم و الإتاوات التي تم فرضها من قبل الفرنسيين ، و كانت تلك الثورة فاتحة جديدة لإحياء الوعي المصري ، و مكافحة المصريين للفرنسي سواء عن طريق الثورات و الاضرابات مثل في ثورة القاهرة الأولى و ثورة القاهرة الثانية أو غيرهم كان لهم الأثر الكبير على خروج الاحتلال الفرنسي من البلاد . و بعد خروج الفرنسيين سجلت مصر ثورة كبرى في عهد خور شيد باشا في مايو 1805م عندما فرض المغارم الصارخة على المصريين فقام التجار المصريين بغلق حوانيتهم و إعلانهم الإضراب عن البيع و الشراء و حاول خور شيد تهدئة الموقف و أرسل العسكر ليأمر التجار بعودة العمل و التجارة و لكنهم رفضوا و تزعم المصريين فى تلك الثورة السيد عمر مكرم الشهير و ساندهم محمد على باشا و كون المصريين وثيقة قانونية وطنية و رفضوا العودة للعمل و إنهاء الثورة و الإضراب إلا أن يوافق خور شيد على العمل بتلك الوثيقة و لكن خور شيد باشا رفض الانصياع للمطالب الشعبية فاشتدت الثورة و التي انتهت بتحقيق رغبة المصريين و عزل خور شيد و تعيين محمد على باشا واليا و الذي وافق على العمل بالوثيقة القومية المصرية . و تعد تلك الفترة من أهم الفترات التي توضح أن المصريين لديهم القدرة على تحديد مصيرهم و لا ننسى أن من كان يتزعم تلك الثورة هو السيد عمر مكرم نقيب الأشراف و يسانده عدد من كبار المشايخ و رجال الدين في مصر .
و في فترة أخرى من فترات التاريخ المصري في يوم 9 سبتمبر عام 1881 عندما توجه عرابي في ثورة شعبية عسكرية رائعة إلى الخديوي في قصر عابدين لتقديم العريضة الشعبية و انضم أليه الفلاحين من كافة الأقاليم و التجار و العسكريين الذين جميعا اضربوا عن العمل و ساندوا عرابي في المسيرة الشعبية لقصر الخديوي . و كان من أهم من ساندوا الثورة هم رجال الدين من الأزهر الشريف رغم الضغوط لتسييس الفتاوى لتجريم زعماء الثورة من الخديوي و البلاد الأجنبية و بالفعل بعد تلك الثورة بدأت طموحات و مطالب الشعب تتحقق و لكنها توقفت على يد التدخل السياسي و الديني العثماني مع التدخل الأجنبي الذى انتهى بوقوع البلاد فريسة في فك الاحتلال الانجليزى .
و بعد سنين قليلة من الاحتلال بدأ الوعي المصري في العودة من جديد و من أهم الاضرابات التي سجلت إضراب عمال مصانع السجائر في عام 1899 م نتيجة للحالة السيئة لنظام العمل و طبيعة العلاقة بين العامل و صاحب العمل و قام العمال بمظاهرات أمام مباني الحكومة و اصطدموا مع البوليس و استطاعوا في النهاية أن يحملوا أصحاب العمل على رفع الأجور و تحديد ساعات العمل .
و مع ازدياد الوعي القومي بعد إنشاء الحزب الوطني عام 1907 و دور مصطفى كامل البارز لإحياء الوعي الوطني و الوقوف أمام المحتل البريطاني ثم خلفه محمد فريد الذى اخذ في بث الوعي بين العمال و تكوين رأى عام بينهم عن طريق تأسيس النقابات مثل نقابة عمال الصنائع اليدوية في بولاق عام 1909 و غيرها من النقابات و اخذ الوعي النقابي يشتد في صفوف العمال و التجأوا للإضراب لتحقيق أهدافهم و لكن بعد قيام الحرب العالمية الأولى و فرض الأحكام العرفية على مصر عام 1914 تمخض لنا أمران الأول زيادة الطبقة العاملة نتيجة للنشاط الصناعي خلال الحرب و لكن أيضا انتكست الحركة النقابية نتيجة لفرض الأحكام العرفية .
و بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى استمرت الأحكام العرفية و شعر المصريون بالاستعباد فلهذا ضموا أصواتهم لجماعة الوفد على رأسهم سعد باشا زغلول لإخراج المصريين من تلك الحالة و ازداد الوعي الوطني و اشتد حتى حادثة اعتقال زعماء الوفد في 8مارس عام 1919 فبدأ السخط بين نفوس الشعب و بدأ التعبير عن هذا السخط بإضراب الطلبة عن تلقى الدروس يوم 9 مارس ثم جاء يوم 10 مارس حتى كان الإضراب عاما و سار الجميع في مظاهرة في القاهرة و استمرت حتى 16 مارس رغم المقاومة الإنجليزية العسكرية و في 17 مارس قامت المظاهرة الكبرى و لم يصبح الإضراب و التظاهر قاصرا على القاهرة فقط بل امتد إلى أقاليم مصر البحرية و القبلية و بذلك تكون المظاهرات و الاضرابات قد عمت البلاد فيما سار يعرف بثورة 1919 و نجحت الثورة في الإفراج عن سعد زغلول و زملائه و السماح لهم بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس .
و تلك أمثلة بسيطة من تاريخ مصر العظيم نتوقف عندها لنرى أن الإضراب شارك المصري في أهم المراحل الفاصلة في تاريخه و كان قرين ملازم للوعي الوطني .
و بهذا فمن يواجه فكرة الإضراب و يعارض المضربين فليعلم انه لا يعارض مجموعة من الشباب أو مجموعة من العمال بل هو يعارض كل مصري شارك بإضراب على مر التاريخ المصري ، فهو يعارض رموز الأمة التاريخية فمن يريد أن يمنع الإضراب فليلغى كل مرحلة من مراحل تاريخ مصر ارتبطت بالإضراب و ليمحو أسماء الزعماء و القادة المصريين ممن نعتبرهم قدوة للوعي المصري بداية بعمر مكرم إلى سعد زغلول و غيره فان كان لديه الشجاعة و الجرأة فليعلن خطأ هؤلاء جميعا .
و ليعلم كل مصري عامل كاهل أو شاب واعي أو مثقف أو غيره شارك في إضراب لمصلحة الأمة و مطالبة بحقوق الشعب و لمصلحة الشعب انه لا يقف وحده لكن هناك أربعة ألاف عام من تاريخ مصر ينظرون إليه فالإضراب في مصر حق شرعي تاريخي .