الأحد، 18 مايو 2008

حافظين مش فاهمين

استطاع المؤرخ بن خلدون من خلال تحليل الظواهر التاريخية للأمم ان يصل إلى ما يسمى بعلم العمران و قسمه إلى العمران البدوي و العمران الحضري و العمران البشرى و الذي هو يعنين في تلك الرسالة حيث حلل بن خلدون من خلال التاريخ الاجتماع الانسانى و ما ينتج عنه من ظواهر و استطاع أن يصل إلى شبه قواعد من خلال هذا التحليل فعلى سبيل المثال تحليله لاستقرار البلدان ، بقوله أن البشر يحتاجون لسلطات تنظم لهم أمور حياتهم و تحل نزاعهم و من هنا ظهر الملك و الملك يحتاج لجند و يحتاج للمال و المال ياتى من الرعية و لكي ياتى المال من الرعية يجب أن يتحقق الاستقرار للرعية في العمل و الكسب و لن يتحقق هذا إلا عن طريق العدل فبهذا فالعدل يؤدى إلى استقرار الأمة و الظلم يؤدى إلى التدهور . و بالتالي يجب على الملك أن يكون عادل و لكي يكون عادل يجب أن يكون قد نشىء على العدل و من هنا أدرك بن خلدون أهمية ما يسمى في العصر الحالي بالتنشئة الاجتماعية . و ما ذكرته من علم العمران البشرى لابن خلدون هو ما يعرف حاليا بعلم الاجتماع الحديث و بهذا يتضح لنا أن بن خلدون من خلال تحليله التاريخي كان له الفضل في ظهور علم الاجتماع . فان كان بن خلدون عالم التاريخ أدرك نظرية التنشئة الاجتماعية منذ أكثر من 600 عام إذن فمن المفترض أن يكون العلماء في الوقت الحالي قد أيقنوا تلك النظرية بل و أنتجوا نظريات أخرى من خلال التأمل في الظواهر التاريخية و كلما مر الزمان زادت الظواهر و زاد التأمل و الإنتاج . و هذا بالفعل حدث فى المجتمعات الغربية المتقدمة و علم العمران البشرى الذي بدأه بن خلدون أصبح الآن علم الاجتماع الحديث و له علمائه المستقلين . أما عن علماء التاريخ في مصر فمن المفترض أن يكونوا الأكثر معرفة لتلك النظريات من خلال دراستهم للتاريخ و لكن من خلال احتكاكي بعدد من أساتذة التاريخ في مصر في كلية السياحة و الفنادق نستطيع أن نستنبط أن معظم أساتذة التاريخ حاليا لا يستطيعون أن يفهموا ما فعله بن خلدون من 600 عام فهم يحفظون التاريخ و لا يفهمونه. فالتاريخ بالنسبة لهم أرقام و أسماء و شجرة عائلة ملكية فليس لديهم القدرة على تحليل الأحداث التاريخية و معرفة دوافعها و نتائجها و عكسها على الواقع المعاصر . أو استنباط قيم من خلال التاريخ أو نظريات و العمل بها حتى على المستوى الشخصي في التعامل مع الآخرين . فالتاريخ لهم هو حفظ الأحداث و الأسماء و الأرقام و عالم التاريخ هو شخص لديه القدرة على الحفظ و تدريس الطلبة في المدارس أو الكليات هي بالنسبة لهم مجرد مهنة لكسب العيش و على الطلبة ( الرعية ) الصمت و الاستماع والشحن ثم التفريغ في الامتحانات و من من الطلبة لديه القدرة الأكبر على الحفظ قد يكون في المستقبل مدرس للتاريخ . و لعل ذلك من الأسباب الرئيسية في ترسيخ فكرة أن علم التاريخ مجرد مادة ثقيلة لا فائدة لها نحفظها و ننساها عند الطلبة . كما أن الأسلوب الاستبدادي في العلاقة بين الطالب و الأستاذ تنم عن جهل أساتذة التاريخ بالتاريخ أو حتى بما أدركه العلماء السابقين لهم مثل بن خلدون في عملية التنشئة الاجتماعية على سبيل المثال . فلينظروا في التاريخ و يروا كم من أمم أهلكت و تخلفت نتيجة للاستبداد و ليعكسوا هذا على النطاق الأضيق في تعاملهم مع الطلبة فتلك الطريقة الاستبدادية تؤدى إلى تخلف العملية التعليمية و بالتالي فساد عملية التنشئة الاجتماعية و نشئة جيل متخلف امتدادا لتخلفهم. فيا للعجب فعلم التاريخ يتدهور عند العرب ما أدركه عالم من 600 عام لا يستطيع إدراكه العلماء الآن.

تسييس الدين لتحقيق أهداف سياسية على مر التاريخ المصري

مفهوم تسييس الدين بنظرة ذاتية

* قبل أن ابدأ في الانخراط في موضوع تسييس الدين على مراحل التاريخ المصري المختلفة أود أن أوضح نظرتي الذاتية لمصطلح تسييس الدين فالبعض يراه ربط السياسة بالدين أو علاقة الدين بالسياسة و لعل برزت هذه الفكرة نتيجة للصراع الدائر في العالم حاليا حول ماهية العلاقة بين السياسة و الأديان . و لكن رؤيتي مختلفة قليلا فما أراه بمصطلح تسييس الدين هو على الصعيد العام تحويل ما هو اجتهادي إلى شرعي تقديسي و جعل الرأي البشرى رأى مقدس لتحقيق مصالح شخصية لا دينية أما على الصعيد الخاص بالسياسة و السلطة و هو ما سأتناوله في هذا المبحث هو استخدام الأشخاص للدين و المعتقدات للوصول لأغراض سلطوية سياسية ليست ذو نية دينية . و بما إن مصر هي أقدم دول العالم تاريخا و أكثرها استيعابا للأفكار و الحضارات المختلفة فسنجد أن التاريخ المصري ذخير بمواقف تسييس الدين للوصول للسلطة و الحكم سواء من قبل أشخاص أو جماعات على مر التاريخ مع اختلاف العقائد و الأديان و الحضارات . و نظرا لضيق المساحة المتاحة في المبحث فسأكتفى بذكر مثال أو اثنين من كل عصر من عصور التاريخ المصري لإبراز الفكرة و توضيحها .

العصر الفرعوني

منذ أن بدأ المصري القديم في الاستقرار في الوادي و التأمل في الموجودات من حوله , خرج بنتائج هذا التأمل و هي عقيدة المصري القديم و حضارته . و من هنا نستنبط أن حضارة المصري ارتبطت بصفة مباشرة بعقيدته لأنهم وليدان نفس التأمل لنفس الشخص و من هنا أيضا نستنتج صفة وجدت في المصري القديم منذ بداية حضارته و استمرت معه و هي الارتباط القوى بعقيدته . و بهذا فكل الأطر و النظم المنظمة لحضارته و منها نظام الحكم السياسي كان يجب أن تكون متوافقة و مرتبطة مع العقيدة المصرية القديمة . و بهذا لم يكن ملك مصر على مر التاريخ المصري القديم مجرد حاكم أو مالك للأرض و لكنه كان رمز ديني أحيانا يعتبر اله كما في الدولة القديمة أو يعتبر شخص مكلف من قبل الإله أو ابن للإله . و بهذا كان يجد الحاكم قابلية للحكم من قبل الشعب بسهولة و بهذا سنجد ارتباط أي صراع سياسي على مر التاريخ المصري الفرعوني مقرونة بفكرة تسييس الدين لان أي صراع سياسي من قبل أطراف مختلفة سيهدف في النهاية للوصول للأكثر قابلية للحكم من قبل الشعب و بما إن قابلية الحاكم مرتبطة بالدين عند المصري القديم فبهذا بالتبعية ستلجأ الأطراف المتصارعة على الحكم إلى تسييس الدين للحصول على قابلية الشعب . و أحيانا كان يواجه الحاكم المصري بعض المعوقات التي تأثر على قابليته للحكم و من هذه المعوقات الأصل الملكي مثل في حالة الملك تحتمس الرابع الذي لم يكن من اصل ملكي خالص و بهذا استعان بكهنة رع لتأليف قصته المشهورة المذكورة على لوحة الحلم المتواجدة في جبانة الجيزة بين قدمي تمثال أبى الهول و التي بمقتضاها يوضح انه مكلف من قبل الإله رعحوراختى بحكم مصر و بهذه القصة استطاع اعتلاء عرش مصر و الحد من سلطة كهنة العقيدة المنافسة عقيدة آمون و من العراقيل الأخرى الجنس مثلما في حالة الملكة حتشبسوت التي كانت تريد الاستقلال بحكم مصر و هي امرأة فاستعانت بكهنة آمون لتأليف قصة الولادة الإلهية المذكورة على جدران معبدها في الدير البحري و التي بمقتضاها استطاعت أن تثبت إنها ابنة الإله و هي الأحق لحكم البلاد و بالفعل استطاعت و استقلت بالحكم , و بهذا كان يلجا دائما الحكام إلى الكهنة لكي يؤلفوا لهم القصص الدينية التي تعطيهم القابلية للحكم بل و أن في بعض الأحيان استغل الكهنة مركزهم الديني و استطاعوا الوصول للحكم عن طريق تسييس الدين مثل الملك أوسر كاف في الأسرة الخامسة و من جانب أخر قامت بعض المذاهب الدينية التي حققت ثورة دينية عقائدية لتحقيق أهداف سياسية مثل في حالة الملك اخناتون و فكرة عقيدة أتون الجديدة التي تلغى كل العقائد الأخرى بأطرها و كهنتها و تظهر بفكرة الإله الواحد و الكاهن الواحد الذي هو السبيل للوصول لذلك الإله و هو في نفس الوقت الملك الحاكم و بهذا يكون من السهل الاستقلال بالسلطة و الحد من نفوذ أي سلطات دينية أخرى غير سلطة الملك الحاكم الكاهن . و هذا الاستخدام للعقائد في الحضارة المصرية القديمة كوقود للأهداف و الصراعات السياسية أدى إلى تفكك المجتمع ¸العقائد و المذاهب بداخله مما يساعد على أنفكاك البلاد و الاضمحلال و فتح المجال للقوى الاستعمارية من الخارج لاحتلال البلاد مثلما حدث في فترة الاضمحلال الثانية و في العصر المتأخر , و قد يكون هذا الاستخدام للدين سبب من أسباب ضعف العقيدة المصرية القديمة و بالتالي تأخر الحضارة المصرية بل و زوالها .

العصر اليوناني

فتح الاسكندر مصر في خريف عام 332 , و ما كاد أن يصل إلى منف حتى سارع إلى تقديم القرابين للالهه المصرية الوطنية ؛ و تتويج نفسه في معبد فتاح على نهج الفراعنة القدماء ؛ و السؤال هنا هل كان الاسكندر حقيقة يؤمن بالعقيدة و الآلهة المصرية القديمة ؟ فالإجابة ستكون لا لان من الصعب أن يكون هذا الشاب ذو العقلية الفذة تلميذ الحكيم أرسطو أن يؤمن بالعقيدة المصرية كاملة بحكمتها و لكنه بالتأكيد في الفكر يتبع المدرسة الارسطية و في العقيدة يوناني مقدوني مرتبط بالثقافة اليونانية . إنما ما هو قريب للواقع انه أراد أن يحصل على قابلية المصريين لحزبهم إليه و السيطرة على مصر إذن فاختار كالعادة تسييس الدين لتحقيق ذلك و كان الوضع مؤهل لذلك بعد عصر من الاضطهاد الديني عاشه المصريون من قبل الفرس . إذن فبتتويجه بطريقة شرعية على نهج المصريين القدماء قد ضمن إخلاص و ولاء المصريين له . و لعل ما يؤكد تمسك الاسكندر بالحضارة الإغريقية انه يوم خرج من بلاده قاصدا فتح الشرق قد أعلن انه رافع لواء الحضارة الإغريقية و لهذا بعد تتويجه في منف أقام حفلا إغريقيا رياضيا موسيقيا خالصا . و من هنا تتضح لنا سياسة الإغريق من بداية الاسكندر و حتى نهاية العصر البطلمى و هي أيضا تسييس الدين لبسط السيطرة على شعب مصر و حكم مصر وهذا يتجلى لنا بشدة في العصر البطلمى بعد أن استقل بطليموس الأول بمصر أعلن نفسه ملك مؤله على مصر و أعطى لنفسه حق ملكية أراضى البلاد و اعتبره حق ديني ؛ و تم إنشاء في مصر فقط ثلاث ولايات إغريقية يعاملوا معاملة الولاية الإغريقية من ثقافة و حقوق للمواطنين و هم الإسكندرية و بطولوميس و نقراطيس أما بقية الاراضى المصرية و التي كان يسكنها المواطنين المصريين الأصليين ذو الثقافة المصرية و العقيدة المصرية فأراضيهم كانت تعد ملك للملك الإله و هم عبيد هذا الملك في خدمته . و تدل لنا الوثائق التاريخية الهيروغليفية و الديموتيقية أن الملك بطليموس الأول حمل بعض ألقاب ملوك الفراعنة التقليدية و أيضا الملك بطليموس الرابع الذي يعد الملك الذي اتخذ صفة الفراعنة كاملة و هذا ليضمن ولاء المصريين التام لأنه في عهدة قرر الاعتماد عليهم في الجيش و بهذا حاول أن يتقرب أليهم عن طريق الدين لكي يضمن ولائهم . و لكن البطالمة من داخلهم كانوا متمسكين بعقيدتهم الإغريقية و آلهتهم الإغريقية و هذا التمسك كان يظهر لنا في الولايات التي تعامل معاملة الولاية الإغريقية في مصر . و أدرك البطالمة تأثير مكانة الكهنة المصريين على عامة الشعب فاستمالوهم عن طريق العامل المادي لاستغلالهم لنشر الهدوء و السكينة و لكنهم لم يدركوا النزاع القديم بين كهنة منف و كهنة آمون فأحيانا كان ينقلب الأمر و نجد أن في توتر علاقات البطالمة مع كهنة آمون نجد على الجانب الأخر تحسن العلاقة مع كهنة منف و العكس صحيح . و من هنا بدا ظهور الضغائن و بداية الثورات الشعبية التي كانت بتأييد ديني من الكهنة حتى أهلكت هذه الثورات الحكومة المركزية البطلمية و كانت سبب رئيسي من أسباب ضعف دولة البطالمة و انهيارها .

ديانة سيرابيس : و هي محاولة فاشلة لتسييس الدين اقرب من محاولة الملك المصري القديم اخناتون حيث أن الملك بطليموس الأول لاحظ تعدد الفرق و الأجناس ذات الثقافات الدينية المختلفة مما قد يؤثر على وحدة مصر في مصر و الحفاظ على ثروة مصر التي كانت من وجهة نظرة مرتبطة بعمل المصريين و الإغريق سويا و بهذا حاول جمع الكهنة لتأليف ديانة جديدة تجمع بين العقيدتين المصرية و الإغريقية للتأليف بين قلوب الشعب و استقر الكهنة على أن يكون محور الديانة ثالوثا مكون من الإله سيرابيس الاغريقى و الالهه ايزيس المصرية و ابنهما هاربوكراتس الذي يعتبره البعض شكل من أشكال الإله حورس كما أنهم حاولوا الدمج بين العديد من الآلهة المصرية و الآلهة الإغريقية . و رغم أن هذه الديانة انتشرت ليس في مصر فقط بل في البحر المتوسط كافة لكنها لم تحقق غرضها السياسي المرجو منها حيث أن المصريين لم ينسوا عقيدتهم القديمة و حتى من عبدوا ثالوث سيرابيس عبدوهم على شكل الآلهة المصرية القديمة و نفس الحال بالنسبة للإغريق و لم تنجح هذه الديانة في استقطاب قلوب المصريين و الإغريق لأنها كانت مفتعلة نتيجة لتسييس الدين لذلك مثلما لم تنجح قديما عبادة أتون أيضا لم تنجح عبادة سيرابيس في مصر .

العصر الروماني

اعتمد الرومان في حكمهم عموما على القوة و لم يتدخلوا بشكل كبير في العقائد المتواجدة في مصر سواء كانت مصرية قديمة أو إغريقية أو يهودية . و نستطيع أن نقسم العصر الروماني إلى فترتين الأولى هي ما قبل ظهور المسيحية و الثانية هي بعد ظهور المسيحية و اعتبراها ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية ؛ و في العصر الأول ففي بداية حكم الرومان في مصر كانوا ينظرون إلى معتقدات المصريين نظرة احتكار و لكن سرعان ما تغيرت هذه النظرة إزاء استمساك المصريين بمعتقداتهم و لذلك أدرك أباطرة الرومان حاجتهم لهذه المعتقدات لإصباغ مراكزهم بالصبغة الشرعية للحصول على قابلية الشعب لحكمهم و ضمان إخلاص الشعب لهم ؛ فبدأوا أن يحزوا حزو البطالمة في اتخاذ صفة الفراعنة . بل أن حاكم مصر الروماني أيضا كان يتشبه بالفراعنة فلا يركب النيل وقت الفيضان و يقدم القرابين عند بلوغ النيل أقصى ارتفاعه و غيرها من المظاهر . و أيضا اخذوا عن المصريين و الإغريق تاليه الملوك فقرنوا الأباطرة بالآلهة مثل أغسطس بزيوس و نيرون باجاثادايمون , أما في علاقة الرومان بالفرق الدينية المختلفة داخل مصر فقد اتبعوا سياسة فرق تسد لصرف هذه الفرق في النزاع فيما بينها بدلا من التوحد و الثورة على الرومان .

أما في الفترة الثانية بعد ظهور المسيحية و انتشارها حتى أصبحت الديانة الأولى منذ عهد ديوقلديانوس حتى دخول العرب فسنجد اختلاف قليل في مفهوم تسييس الدين فالأمر كان يميل أكثر إلى تدين السياسة حيث أن بعد انتشار المسيحية في مصر منذ بداية القرن الثالث الميلادي و استطاعتها بالتغلب على الأفكار و المدارس الوثنية بدا ظهور الخلافات بين المسيحيين أنفسهم و بدا ظهور بعد الفرق صاحبة الأفكار الجديدة مثل الاريوسية و التي واجهها الامبا اثناسيوس و أيضا النسطورية التي انتشرت في أوربا و الشام و التي واجهها الامبا كيرلس فلا سيما أن العديد من العامة تأثروا بتلك الأفكار و تلك الفرق المتناقضة و لا سيما الأباطرة و أصحاب المراكز السياسية فمنهم على سبيل المثال من تأثر بالفكر الاريوسى مثل قسطنطين و قسطنطيوس و يوليانوس و فالنس و أرادوا تفعيل هذا الفكر في قرارات سياسية تفرضه على العالم المسيحي و يرى البعض أن لولا وقفة اثناسيوس في مصر ضد هذا الفكر لكان من الممكن أن يتحول العالم المسيحي كله إلى الفكر الاريوسوى و نفس الأمر حدث مع الامبا كيرلس و مواجهته لهرطقة نسطور ؛ و لعل الخلاف الأبرز الذي استمر حتى الآن قد بدأ بخلاف بين كنيستي روما و الكنيسة المصرية عام 451 بعد ارتقاء الإمبراطور مرقيانوس العرش حين رفض الأنبا ديسقورس بطريرك الإسكندرية الموافقة على مسائل إيمانية أوردها لاون أسقف روما عن طبيعة المسيح و سرعان ما استخدم لاون نفوذ الإمبراطور و أقناعة بعزل ديسقورس بطريرك الإسكندرية عن منصبه و من هنا اشتد الخلاف و بدأت المذابح و الاضطهاد الذي عانى منه المصريين نتيجة هذا الاختلاف الفكري الديني بين اليعاقبة أو السريان و الأرثوذكس أتباع كنيسة الإسكندرية من جهة و الكاثوليك أتباع كنيسة روما من جهة أخرى و هذا الخلاف تحول لقرارات سياسية ظالمة على الشعب المصري مما أدى إلى انهيار مصر اجتماعيا و تفككها و ساعد على الفتح العربي للبلاد . و نستطيع أن نعتبر تلك الفترة فترة صراع فكرى عقائدي تحول إلى صراع سياسي و لا نستطيع أن نعتبر هذا الصراع نتيجة لتسييس الدين ؛ بل أن الخلاف الديني هو الذي اثر على الساسة و الحكام و تحكم بقراراتهم .

العصر الأسلامى

يعتبر بعض المؤرخين و المحللين أن الفتح العربي لمصر كان لمجرد رغبة في الاستيلاء على كنوز و ثروات البلاد و أن العرب المسلمين تستروا وراء عقيدتهم و سيسوها للوصول لتلك الأغراض المادية ؛ و لكننا لو تعمقنا في هذا الراى سنجد انه من الصعب أن يكون صحيحا حيث أن مصر فتحت في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على يد عدد من الصحابة على رأسهم عمرو بن العاص و الزبير بن العوام ؛ و هؤلاء الصحابة على رأسهم الفاروق عمر اتسموا بالزهد و لم يكونوا أصحاب خزائن و ثروات سواء قبل الفتح أو بعده فمن أين ستأتي تلك النية المادية . و لكن الأرجح أن هذا الفتح كان نتيجة للصراع الاسلامى الروماني لرفض الرومان السماح للمسلمين بتبليغ رسالتهم بل و اضطهاد هذا الفكر الجديد و محاربته مما دعي المسلمين إلى صراع الروم لتبليغ رسالتهم الدينية و في هذا العهد كانت الفتوحات ذو نية دينية أو دفاعا عن المسلمين . و لكن نستطيع أن نرصد بداية فكرة تسييس الدين لدى المسلمين بعد عودة الصراع مرة أخرى العرقي الذي كان دائر في الجاهلية بين بنى أمية و بنى هاشم و بالتحديد ليس في بداية هذا الصراع بل بعد إنشاء الدولة الأموية و توريث الحكم ليزيد بن معاوية بن أبى سفيان و من هنا سارع الخلفاء الأمويين في استخراج الفتاوى من العلماء المسلمين لتأييد حكمهم و صلاحيتهم للحكم و من هنا بدأت فكرة تسييس الدين لكسب القابلية الشعبية للحكم دون اعتراض و لتطبيق شكل من أشكال الثيوقراطية مستنكرين مبدأ الشورى في الإسلام و لهذا فعلى اى حركة تريد أن تصل للحكم أن تطعن في دين أو نسب الفرقة الحاكمة مثلما حدث في الفكر الشيعي فإذا نظرنا لهذا الفكر في شقه السياسي سنجد انه متأثر بشكل كبير بتسييس الدين و الصراع العرقي الذي كان دائر فلذلك اعتبر الشيعة أن الخليفة يجب أن يكون من النسب العلوي و اعتبروا ذلك فرض كفاية و لهذا بدأ صراع الأنساب و اشتد من الجانب الأموي و العباسي و الشيعي , ثم حتى انقسم الشيعة أنفسهم بين الكاظمية و الإسماعيلية و هذا الانقسام في الأساس انقسام سياسي و عرقي و لكنه تحول إلى انقسام ديني مذهبي ؛ و لعل هذا التسييس كانت نتائجه وخيمة على الأمة الإسلامية من تفرق ديني أدى إلى تفرق المسلمين إلى فرق كثيرة و تصارعهم بعضهم البعض أدى إلى ضعف المسلمين و جعل بلادهم عرضة للاستعمار كما أن هذا التسييس أدى إلى فقدان الثقة في كثير من العلماء حيث أن من المفترض أن يكون العالم مستقل يخرج للناس ما ينصه الشرع و لا يتأثر بعرف أو سياسة و لكن هذا التسييس جعل الكثير من العلماء كالألعوبة في ايدى الخلفاء و قراراتهم السياسية و من كان يعارض هذا كان يواجه الكثير من المصاعب منها السجن و الحبس و التعذيب مثلما حدث مع الإمام الشافعي و الإمام بن حنبل و غيرهم ممن تمسكوا باستقلالية العالم و منهم أيضا القاضي احمد بن رقابة و غيرهم ممن تمسكوا بأراءهم و أفكارهم و عرضوها بحرية أمام الحكام دون اى حرج . و ولاة مصر و حكامها لا سيما تأثروا بهذه الطريقة في استعمال الدين للأغراض السياسية و من اشهر القصص المختصة بحكام مصر قصة احمد بن طولون في صراعه مع الخليفة الموفق عندما أراد الاستقلال بمصر و لجا بن طولون لاستخراج الفتاوى من العلماء بأبطال دعوى الموفق في السلطان و أعلن نفسه حاميا للخليفة المعتمد المغلوب على أمره و رفض الإذعان لأحمد بن طولون القاضي بكربن قتيبة و كان من اكبر فقهاء العصر في ذلك الوقت فسنجنه احمد بن طولون و في أواخر أيام حكمه ندم على ذلك و أفرج عن القاضي أبى بكر و طلب منه السماح و لكن القاضي رد عليه و قال ( شيخ فان عليل مدنف و الملتقى قريب و القاضي الله عز و جل ) و كان لهذه العبارة الأثر الشديد على نفس بن طولون و يقال انه أغشى عليه عند سماعها . و على وجه العموم برزت فكرة الخليفة المطاع بموجب الشرع الديني و أن الاعتراض عليه يعتبر خلاف مع الشرع و الدين و استمرت هذه الفكرة متواجدة في البلاد الإسلامية حتى ألان في بعض الفرق السلفية و البلاد صاحبة السلطة الملكية مثل المملكة العربية السعودية .

العصر الحديث و المعاصر

مثلما قلنا استمرت تلك الفكرة فكرة الخليفة الشرعي المطاع في البلاد الإسلامية و في مصر حتى زوال الدولة العثمانية . و في التاريخ المصري الحديث يتتضح لنا الفكرة و الرؤية أكثر و أكثر من خلال المواقف التي سنمر عليها و التي تعكس لنا الأفكار التي موجودة في مجتمعنا ألان . فمصر في العصر الحديث كانت تابعة للدولة العثمانية و بالتالي فهي تابعة للخليفة العثماني و لكن مصر عانت من الكثير من التغيرات الفكرية خاصة بعد الحملة الفرنسية و بدأت في طريقها للتقدم و الازدهار ثم إحباط هذا التقدم من خلال التدخل الاجنبى ثم الاستعمار و الذي لعب تسييس الدين دور كبير في وجوده . فعند قيام الثورة الشعبية العرابية في مصر حاول الخديوي بالاشتراك مع السلطان العثماني التأثير على الأزهر الشريف للوقوف ضد عرابي و حزبه باعتباره خروج عن الحاكم و عصيان و بالتالى خروج عن الدين و لكن في ذلك الوقت الأزهر على رأسه الإمام محمد عبده كان في حالة ازدهار فكرى و ينعم بالاستقلالية فكان رد قاطع و صريح بان علماء الأزهر علماء فقه و يفتون بما ياتى به الشرع و أنهم لم يجدوا أن عرابي و جماعته مخالفون للشرع لكي يعترضوا عليهم بل أنهم يريدون مصلحة الأمة و كان هذا الرد بمثابة مفاجأة للخديوي و الخليفة بل و أيضا مفاجأة فكرية حيث أن الإمام محمد عبده أنكر أن نظام الخلافة الإسلامية بشكله فرض كفاية و قال إن لا يوجد من الشرع ما يؤكد هذا بل أن اى نظام سياسي أيا كان شكله يضمن التقدم و الرخاء للمسلمين و لا يستنكر الشريعة الإسلامية هو فرض كفاية و ليس من الضروري أن يكون هذا النظام بشكل الخلافة و نلاحظ هنا مدى الاستقلالية التي كان يتمتع بها الأزهر في ذلك الوقت و لم يجد الخليفة و الخديوي إلا أن يلجأوا لشيخ الإسلام و الذي بالفعل أعلن عصيان عرابي و سرعان ما تدخلت انجلترا بحجة تأديب عرابي العاصي و حماية الأقليات و مساعدة السلطان العثماني و هذا الإعلان بالطبع كان له الأثر السلبي على المصريين حيث أدى إلى تضارب الآراء حول عرابي و انشقاق العديد من المصريين عنه بسبب تلك الفتوة و نرى أن تلك الفتوى ساعدت في وقوع مصر في ايدى استعمار دام أكثر من سبعين عاما . تحول حدث بعد إلغاء الخلافة العثمانية فبدأ بعض الملوك و الحكام التفكير في السعي لهذا المنصب و من ضمنهم الملك فؤاد و جماعة الأخوان الموحدين في الجزيرة العربية و غيرهم و حاول الملك فؤاد الحصول على تأييد بعض العلماء في مصر أصحاب الفكر السلفي مثل الشيخ رشيد رضا و غيره و سنجد الصراع الفكري حول ماهية الخلافة انتشر في الصحف و الجرائد بين تلامذة الإمام محمد عبده و أصحاب الفكر السلفي . ولكن لم يستطع الملك فؤاد أو اى حاكم عربي الوصول لتلك الأهداف و تحقيق فكرة الخلافة من جديد سواء في أطار عربي أو اسلامى و في ظل هذه الظروف نشأت في مصر جماعة بدأت كجماعة مدنية ذات طابع ديني ثم انطلقت لتعلن فكر سياسي و هو فكر الخلافة السياسي الشمولي و هذه الجماعة هي جماعة الأخوان المسلمين و على رأسهم الأستاذ حسن البنا ؛ و طبقت الجماعة بداخلها الشكل الشمولي الشبيه بفكرة الخلافة ؛ تعتمد على المرشد الإمام المطاع الذي بيده مقاليد الأمور و يحكم بشرع الله ؛ و تمسكوا بأنهم هم السبيل الوحيد لتطبيق شرع الله و منهجهم هو المنهج الاسلامى الصحيح أما ما دونه فهو ليس إسلام ؛ و بنيت الجماعة على تسييس صريح للدين مما جعل الكثير من العلماء الوقوف أمامها خاصة و أن مؤسس الجماعة لم يكن عالم دينيا . و لكن لم تنال هذه الجماعة في ذلك الوقت قاعدة شعبية كبيرة لان الشعب في ذلك الوقت كان أكثر تأييدا للوفد ذو الاتجاه الليبرالي لتحقيقه العديد من الإنجازات لمصر فلم تستطيع هذه الجماعة تحقيق أهدافها خاصة بعد اغتيال مرشدها و مؤسسها السيد حسن البنا ؛ ثم جاءت ثورة 1952 على يد جماعة من الضباط أطلقوا على اسمهم الضباط الأحرار و هؤلاء الضباط لم يكونوا في البداية أصحاب فكر أو تيار سياسي أو ينتمون لتنظيم حزبي أو جماعة سياسية و لكنهم كانوا مجموعة من الضباط عانوا من الهزيمة في حرب 1948 و شعروا بفساد الحاشية الحاكمة فأرادوا تغيير هذا الوضع و بالفعل كانت الثورة و نجحت هذه الثورة نجاح غير متوقع حتى أنها وصلت إلى إلغاء النظام الملكي و هنا كانت النقطة الفاصلة حيث أن هؤلاء الضباط لم يكونوا أصحاب رؤية سياسية متكاملة كما ذكرت و لم يمار سوا الحياة السياسية و بالتالى بعد إلغاء النظام الملكي تعين عليهم التفكير في إقامة شكل سياسي و ظل الوضع متوتر في مصر حتى تعيين الرئيس جمال عبد الناصر كرئيس لجمهورية مصر و إعلان دستور 1956 و من هنا أتضح لنا استراتيجية مصر الجديدة كجمهورية و هذا الزعيم جمال عبد لناصر كان رجل شديد الذكاء صاحب شخصية كاريزمية و في عقله حلم كبير للقومية العربية و لتحقيق هذا الحلم فكر في توحيد الأمة من خلال رأى واحد هو راية حتى إن كان هذا التوحيد عن طريق أن يمحى الآراء الأخرى فألغى البرلمان و الأحزاب و الجماعات السياسية مثل الأخوان و مصر الحرة و غيرها و امتلأت المعتقلات بالمعتقلين ؛ أما عن الدين فهو بحاجة أن يضمن عدم تعارض الفقهاء و العلماء على سياسته فربط المؤسسة الدينية المتمثلة في الأزهر بالسلطة التنفيذية أو الدولة لكي يسهل التحكم بها و فقدت استقلالية الأزهر و أيضا ألغى المحاكم الشرعية . و عبد الناصر كان مؤمنا بالفكر الاشتراكي و بالفعل طبق الاشتراكية في مصر و لا نستعجب أن نرى الكثير من الفتاوى في ذلك الوقت بان الاشتراكية هي النظام الاسلامى لأنها تضمن العدالة الاجتماعية و هذه الفتاوى بالطبع لتحقيق غرض عبد الناصر السياسي الاقتصادي و للأسف فالأزهر الشريف ظل مربوطا بالدولة حتى عصرنا الحالي مما يضعف استقلالية العلماء و في بعض الأحيان يؤدى إلى حالة من فقدان الثقة من قبل العامة بالأزهر مما يفتح المجال أمام التيارات الوافدة من خارج مصر للتأثير على الفكر الديني للمجتمع المصري . نستكمل بعد رحيل الرئيس عبد الناصر جاء الرئيس الراحل محمد أنور السادات و كان فكره مناقض للفكر الاشتراكي السابق و أراد الاتجاه إلى الرأسمالية و الانفتاح فواجه حملة عنيفة من اليساريين و الاشتراكيين فلجا إلى الجماعة القديمة جماعة الأخوان المسلمين فأفرج عنهم و سمح لهم بالعودة إلى الحياة العامة بهدف الوقوف أمام الاشتراكيين و القضاء على الفكر الاشتراكي عن طريق الفكر الديني الاخوانى و بالفعل نجح و وجدنا فتاوى بان الإسلام هو دين الرأس مالية و الملكية الخاصة و استغلت الحكومة الفكر الديني لتحقيق الأهداف السياسة و لكن سرعان ما جاءت نتائج هذا التسييس السلبية على الرئيس السادات نفسه حيث أن جماعة الأخوان لم تنسى أهدافها القديمة و استراتيجيتها السياسية و انتهى الأمر باغتيال الرئيس السادات . ثم جاء عصر رئيس الحالي السيد الرئيس محمد حسنى مبارك و اختفت جماعة الأخوان لفترة قصيرة بعد اغتيال السادات لكنها عادت للظهور مرة أخرى و ازدادت شعبيتها خاصة بعد التحول السياسي العالمي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر و لم تستطع الحكومة التعامل معها مثلما كان في الماضي من سياسة اعتقال بسبب الضغوط الدولية لتطبيق الحرية و الديمقراطية داخل المجتمع . و بالفعل ما كان على الحكومة المصرية إلا إلى تطبيق شكل من الأشكال الديمقراطية داخل المجتمع و استطاعت جماعة الإخوان في الدخول في الحياة السياسية المصرية و ازدادت قاعدتها الشعبية فما كان على الحكومة المصرية إلا إلى اللجوء لمواجهة هذه الجماعة التي تسييس الدين بتسييس أخر للدين من خلال السماح بدخول التيارات ذات الطابع السلفي في مصر الوافدة من خارجها و التي تحرم العمل السياسي و الاعتراض على الحاكم مثلما كان في نظام الخلافة لمواجهة تيار الإسلام السياسي المتمثل في الإخوان المسلمين على وجه الخصوص و للاستفادة من منع الناس في ممارسة السياسة على وجه العموم بحيث يكون النظام السياسي المصري ديمقراطي في شكله ثيوقراطى في مضمونه و بالتالى أصبحت مصر مكان للصدام الفكري بين التيارات السلفية و الأزهر الحبيس و جماعة الإسلام السياسي و نستطيع أن نضيف الأفكار الغربية العلمانية . و هذا الصدام قد يؤدى إلى عواقب وخيمة على ترابط المجتمع المصري و على الدين و أيضا على الحياة السياسية فمثلما استعان السادات من قبل بالإخوان للقضاء على التيارات السياسية و أدى ذلك إلى اغتياله و تهديد امن مصر ؛ فالآن الحكومة المصرية استعانت بالتيارات السلفية لمواجهة ضغوط تطبيق الديمقراطية و تيار الأخوان المسلمين و هذا التسييس للدين أدى إلى حالة من الفوضى داخل المجتمع المصري نعيشها يوم بيوم ؛ و بالقياس التاريخي على مواقف التسييس التي ذكرتها على مر عصور التاريخ المصري نستطيع أن نستشف ما هو قادم لو استمرت هذه السياسة الفكرية في مصر .